إقتصاد وتنمية

مصر.. "سلة العالم" القديم مهددة غذائياً وينهشها الفساد

مصر.. "سلة العالم" القديم مهددة غذائياً وينهشها الفساد

على مدار التاريخ كان رغيف الخبز واحداً من أهم المسكنات التي أسكتت المصريين طويلاً على ظلم وفساد حكامهم؛ ذلك أن مصر، أو "سلة العالم" كما كانت تسمى قديماً، كانت واحدة من أكبر منتجي القمح، وهو ما حال بين المصريين وبين الجوع لعقود طويلة خلت.

ولقرون طويلة ظلت مصر سلَّة للغذاء، ومخزناً للسلع في الشرق الأوسط وأوروبا، وكانت تحقق اكتفاءً ذاتياً حتى عهد الخديوي محمد علي باشا، لكنها بدأت تستورد القمح قبيل ثورة يوليو/تموز 1952، وتحديداً عام 1951، وكان ذلك لتغطية احتياجات القوات البريطانية المحتلة.

وأخذ محصول القمح في التراجع والتأثر بعوامل عدة؛ من بينها الإهمال الحكومي، وجلب بذور ومبيدات مشكوك في سلامتها، ثم ما لبثت مساحات القمح تأخذ في الانحسار بشكل كبير، إما لصالح محاصيل أخرى أكثر ربحاً، أو في سبيل البحث عن مورد مالي أكثر جدوى.

ورغم مواجهة هذا المحصول الاستراتيجي لكثير من المشكلات خلال العقد المنصرم، إلا أنه واجه عصفاً غير مسبوق خلال السنوات الثلاث الأخيرة، حتى أصبحت مصر تستورد قرابة 9 ملايين طن، تمثل نصف استهلاكها من القمح سنوياً.

وفقاً لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء فإن إنتاج مصر من القمح عام 2001 بلغ نحو 6.6 ملايين طن، ولم يرتفع بعد 13 عاماً، أي في عام 2014، إلا بنحو 2.7 مليون طن فقط، ليصبح 9.3 ملايين طن.

مافيا حكومية

وبسبب الفارق في الأسعار بين القمح المحلي الذي تدعمه الحكومة وتشتريه من الفلاح، وبين القمح المستورد رخيص الثمن؛ ظهرت مافيا التجار، التي تستورد القمح بنحو 1500 جنيه مصري للطن (نحو 120 دولاراً)، وتورده للصوامع الحكومية بطرق غير مشروعة بمبلغ 2800 جنيه تقريباً، على أساس أنه قمح محلي.

وفي أواخر 2015 أعلنت الحكومة المصرية عزمها شراء القمح من المزارعين المحليين بمتوسط السعر العالمي اعتباراً من الموسم الجديد؛ بهدف منع تهريب القمح المستورد، وقال بيان لمجلس الوزراء المصري، إن النظام الجديد يقضي بدعم مزارعي القمح مباشرة عبر منحهم 1300 جنيه مصري (100 دولار) للفدان، بحد أقصى 25 فداناً للمزارع الواحد.

وكانت الحكومة تشتري القمح بأعلى من السعر العالمي لتشجيع المزارعين على زراعة القمح، وفي موسم 2014-2015 بلغت توريدات القمح المحلية إلى الحكومة 5.3 ملايين طن، ارتفاعاً من 3.7 ملايين طن في الموسم السابق.

وبسبب هذه التدابير حدثت حالة من الارتباك في إجراءات استلام القمح من المزارعين في موسم الحصاد في أبريل/نيسان الماضي، وتطورت الخلافات (الحكومية-الحكومية) إلى حد توجيه وزارة الزراعة اتهاماً إلى وزارة التموين والتجارة الداخلية بالتلاعب في الدعم، بعد ضبط وزارة الزراعة شحنة من القمح المستورد رديء الجودة في طريقها إلى إحدى المطاحن الحكومية.

على إثر الخلاف بين وزارتي الزراعة التي تنتهج سياسة دعم المزارعين، وتوسيع رقعة الأرض المزروعة من القمح، ووزارة التموين التي تفضّل استيراد القمح من الأسواق العالمية؛ لتوفير 5 مليارات جنيه سنوياً، على حد قول وزير التموين خالد حنفي، قرر مجلس النواب المصري في يوليو/تموز الماضي، تشكيل لجنة تقصي حقائق للوقوف على حقيقة هذا الخلاف.

وفي يوليو/تموز الماضي، كشفت الزيارات الميدانية التي أجرتها لجنة تقصي الحقائق التابعة لمجلس النواب عمليات فساد، واختلاسات في توريد منظومة القمح بلغت نحو 70 مليون دولار في 10 صوامع فقط، من أصل 517 صومعة.

النائب إيهاب عبد العظيم، عضو لجنة تقصي الحقائق النيابية، قال لصحيفة اليوم السابع المصرية: إن "هناك توريدات وهمية كبيرة يتم ضبطها حالياً"، مشيراً إلى "تورط شخصيات وأسماء كبيرة في هذه الوقائع".

وبدوره قال رئيس لجنة تقصي الحقائق، مجدي مالك، لإحدى الفضائيات المصرية، إن اللجنة كشفت عن فساد بقيمة 532 مليون جنيه في 10 صوامع فقط تمت زيارتها من إجمالي 517 صومعة.

وتقول اللجنة إن مسؤولين حكوميين في 3 وزارات متورطون في فساد منظومة القمح، منهم اللجنة الرباعية التي تستلم القمح في الصوامع، وهم تابعون لوزارات الزراعة، والتموين، والصناعة والتجارة، وقد اعترفوا خلال التحقيقات بالصوت والصورة بتقاضي 10 جنيهات مقابل الطن الذي يتم توريده، و20 جنيهاً مقابل الطن الذي يُسجل بشكلٍ وهمي.

وفي 7 أغسطس/آب الجاري، كشف بيان النيابة العامة أن التحقيقات في وقائع الفساد المتعلقة بتوريد القمح المحلي "أكدت أن القيمة الإجمالية للتلاعب بلغت 621 مليون جنيه، أي نحو 70 مليون دولار تقريباً".

كما أسفرت التحقيقات عن ظهور وقائع جديدة؛ تتمثل في قيام البعض باصطناع كشوف حصر بأسماء مزارعين وحائزين لأراضٍ زراعية، وإثبات قيامهم بزراعة تلك الأراضي بمحصول القمح، وإثبات توريد تلك المحاصيل للصوامع والشؤون التخزينية، على خلاف الحقيقة.

وتزامنت هذه الاختلاسات مع تدهور مخيف للاقتصاد المصري، دفع مصر لاقتراض 12 مليار دولار من صندوق النقد الدولي، كما أنها تأتي بعد أسابيع قليلة من محاكمة الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات، المستشار هشام جنينة؛ بتهمة نشر أخبار كاذبة، وذلك على خلفية تأكيده أن مصر تحملت 600 مليار جنيه خلال 3 سنوات بسبب الفساد.

ووفقاً لرئيس مركز البحوث الزراعية الأسبق، عبد العظيم الطنطاوي، فإن الفجوة القمحية التي تعاني منها البلاد تقدر بنحو 50%.

وتزداد هذه الفجوة سنويّاً بسبب الزيادة السكانية، وانحسار مساحة القمح، وانخفاض الإنتاجية، والتغيرات المناخية، وعدم ترشيد الاستهلاك، وزيادة نسبة الفاقد من 15% إلى 20% أثناء النقل والتداول والتخزين، مشيراً إلى أن متوسط إنتاج الفدان على مستوى الجمهورية يبلغ 17 إردباً، بدلاً من 24 إردباً، هي الإنتاجية المفروضة، بحسب الطنطاوي.

ويعتبر القمح محصولاً استراتيجياً تعتمد عليه مصر بشكل أساسي في غذائها، ولو تراجع الإنتاج العالمي من القمح في أي وقت بسبب سوء الأحوال المناخية، والحروب، أو غيرها، فربما أدى ذلك إلى مجاعة في مصر، أو في أفضل الاحتمالات تسبب في زيادة الأموال التي يتم شراء القمح بها، وهو ما يعني زيادة الأعباء على الموازنة العامة والاحتياطي النقدي الآخذ في التراجع.

وقد حدث هذا في ديسمبر/كانون الأول 2014، عندما أوقفت روسيا صادراتها من الحبوب بسبب الأزمة الاقتصادية التي كانت تعاني منها، واضطرت مصر للبحث عن بدائل، كالقمح الفرنسي، ودفعت لقاء ذلك مبالغ كبيرة لم تكن في حساباتها.

إقتصاد وتنمية -

منذ 7 سنوات

-

4964 مشاهدة

اخبار ذات صلة

أهم التصريحات المزيد