فتحي ابو النصرفتحي ابو النصر

الأكثر غياباً والأكثر حضوراً

رسّخ جارالله عمر أفكاره بعظمة الموقف الشهم، فهو جزء أصيل من سيرة طويلة نحو الحرية في اليمن، وهو أحد الأبطال الوطنيين الذين دفعوا ثمناً فادحاً لمبادئهم: رجل سياسة عالي المستوى، استوعب المفاهيم المتغيرة والمعقدة على مدى أربعة عقود، بحساسية متفوقة، كما خاض تأملاً واسعاً أفضى به الى التحول من ثوري عنيد متطرف إلى صاحب تجربة فذة في الحوار والتسامح.
ولئنه المناضل الديناميكي الدؤوب الذي ترك غيابه فراغاً قلما يستطع أحد أن يملأه غيره بذات الكفاءة والنضج. فهو جارالله عمر الذي كان يستشرف القادم بشفافية مدهشة، متخلصاً من ترسبات لطالما أعاقت النخبة اليمنية عن الفكر الحافل بالتنوير السياسي الخصب، كما بالمسؤولية الوطنية الأنقى، بحيث أرعب الظلاميين والطائفيين وساسة الخراب والاستبداد الذين لا يتعلمون من الماضي و يخربطون أوراق الحاضر، مخاصمين لحلم اليمن الجديد الذي ناضل من اجله جارالله عمر حتى آخر لحظة في حياته الحافلة.
جارالله عمر الجريئ في إعلاء مبادئ النقد والمراجعة نحو إنتاج رؤية حقيقية نابعة من المشروع الوطني الكبير تفضح كل الرؤى المهيمنة للمشاريع الصغيرة كما تحرض من اجل عشق اليمن أكثر.
كانت حياته بين الشمال والجنوب مليئة بما هو معقد من التفاصيل التي نجا من مكائدها باتخاذه الشفافية والمراجعة النقدية منهجاً مسؤولاً وموضوعياً، ما جعله واحداً من أبرع الذين مزجوا اليومي بالتاريخي فصار بمثابة تيار مغاير وآخر في الحياة السياسية اليمنية.
وأما في ضوء عجرفة السلطة عقب حرب صيف 94 فقد كان موقفه حازماً ضد إذلال حزبه بجسارة مشهودة جداً.
وأما بين صنعاء وعدن فقد كان بطلاً للمستضعفين وللحالمين الوطنيين، بينما امتاز بتقييماته غير المتحيزة على الدوام الا لليمن ولليمنيين .
انه المناضل الصلب الذي تحل ذكرى اغتياله قريباً.. تمثل سيرة حياته الزاخرة أفقاً للتفاؤل الإنساني، وتعزيزاً للهمة الديمقراطية، وكفاءة الروح القديرة وطنياً، إضافة إلى ترقية التعايش الخلاق داخل المجتمع.
فلقد كان جارالله عمر طرازاً نوعياً ومختلفاً من السياسيين والقادة الألمعيين بشخصيته الإبداعية المستقلة.
كان من الصعب أن يتم استلابه، فيما لم يكن سياسياً لئيماً مرفهاً، بقدر ما كان المتخاصم النزيه والعفيف مع نزعة المادة.
وفضلاً عن السلطة الأخلاقية التي صنعها من خلال ممارساته على أصعدة السياسة والفكر والحياة الاجتماعية عموماً، اتخذ من النقاشات الصبورة والعقلانية بشكل خاص مساراًَ رفيعاً من أجل الحقيقة وتقريب وجهات النظر- إما في عز الشمولية جنوباً وشمالاً أو مع تمادي القهر الوحدوي خلال المرحلة الانتقالية - حتى انه بلغ بذلك درجة رفيعة وحيوية من النضج الذي جعله حاد البصيرة كنسر.
والمعلوم انه ظل الحميم مع الجميع حتى الذين تساقطوا، أو الذين لا يتفقون معه فكرياً داخل الحزب أو خارجه، كما ظل يمزج السياسة والثقافة متطلعاً كما ينبغي للمستقبل.
لكن تياراً قذراً ومتوحشاً في سلطة الهيمنة والنفوذ التاريخية اغتاله تحت مظلة التكفير معززاً بمساندة كبرى من الجهة الأصولية المتخلفة والمتشددة التي كانت ضد كل القيم العظيمة التي تمثلها جار الله عمر في حياته الملهمة والعنفوانية.
بينما كانت المساواة والعدالة والكرامة وقبول الآخر والتطور مسالك جارالله عمر الأساس.
فلقد كان للفقيد الكبير طروحات عديدة تؤكد قيمه ومبادئه التي أصر عليها حتى لحظته الأخيرة وذلك من اجل انبثاق وعي المصالحة التاريخية الوطنية للخروج من الظروف الصعبة التي تمر بها البلد خصوصاً جراء تداعيات حرب 94 المشئومة .
وبموضوعية وعيه الوطني العميق، ونهجه السياسي الذي مثل مدرسة رحبة في الحوار والتسامح والدمقرطة والانفتاح استمر يحث على مشروع التغيير بالمصالحة ، واثقاً بإرادته الصلبة من أن طريق التغيير طويل وشاق، لكنه ظل يتشبث بإمكانية اجتيازه حال أخلصت كل القوى السياسية نواياها من اجل ذلك.
كذلك تنم مواقف وكتابات جار الله عمر عن منظومة فكرية وطنية مبلورة بالهوية اليمنية، فهو السياسي المتجاوز الذي أعاد للموقف هيبته في أصعب الظروف، كما أعاد للسوية الوطنية منطقها في أحلك اللحظات، لاشك .
ثم ان التاريخ يشهد أنه استشهد وهو يناضل من اجل ترسيخ مفاهيم الدمقرطة والتسامح والحوار والمشترك الوطني والحريات والحقوق، وتجاوز مايفرق اليمنيين الى مايوحدهم ، واعياً بكل التناقضات والتفاوتات والأزمات الاجتماعية والسياسية التي تعيق حلم المصالحة والتطور الذي كان ينشده بإخلاص ووعي مستقبلي ثاقب .
ولأنه حامل إرث المحاربين القدامى الذين تميزوا بالإيثار وهموم الوعي العضوي بقضية التغيير، استطاع أن يكون من الرادمين الأفذاذ لتلك الهوة بين الأجيال، بحيث انه لقب بحبيب الشباب ونصير الحداثة والحليف الدائم للتنوير وللتقدم.
باختصار: كان جارالله عمر الاكثر وجعاً والأكثر جمالاً.. الأكثر قهراً والأكثر حباً..الأكثر غياباً والأكثر حضوراً : يتحمل أنانية كثيرين فيما تتوائم روحه بالبياض فقط، بل لعله السياسي الوحيد الذي استطاع أن يصالحنا بنا كيمنيين، بحيث استمر حتى آخر شهقة يوحدنا معه في الوطن الذي نترجاه؛ كما يعلمنا كيف يكون الصبر تحدياً وكيف يكون اليأس أملاً وكيف ينبغي لليمنيين ان يرسخوا مشروعهم الوطني الكبير.
جار الله عمر الذي ظل يزقزق في وجه الجميع : " لا يمكن الجمع بين الديمقراطية والعنف في وقت واحد ( ..) الحل السياسي اسلوب حضاري يضمن البقاء والتعايش للجميع بسلام ( ..) يجب لأي مصالحة في المستقبل ان لا تجري تحت إلحاح الضرورات الآنية والرغبة في المناورة السياسية.(..) يجب الالتزام بعدم اللجوء الى السلاح في المستقبل واخراج القوات المسلحة من دائرة الصراع السياسي والحزبي (..) مشاكل اليمن ليست دينية ، أي انها لاتحتاج الى برنامج ديني مثلاً بل الى برنامج سياسي اقتصادي اجتماعي ثقافي يقودنا الى دولة مؤسسات يسودها النظام والقانون والديمقراطية والمواطنة المتساوية واحترام حقوق الانسان(..) هناك من يقول بأن الحرب هي التي تعزز الوحدة وأنها الوسيلة الوحيدة للحفاظ عليها وليس بخاف مدى مايترتب على تكريس عقيدة سياسية كهذه من سياسات وقيم وسلوكيات ضارة وغير توحيدية في شتى مناحي الحياة وانعكاسها سلبا على العلاقات والمصالح المتبادلة بين أفراد المجتمع(..) لاينقص من وحدة اليمن شيئاً بل يعززها ذلك النوع من الاعتراف الشجاع بما لحق ببعض المحافظات الجنوبية وأبنائها من أضرار أكثر من غيرها ومعالجتها بروح جماعية وإعادة الاعتبار للطابع السلمي للوحدة ، وان التاريخ سوف يسجل ذلك بوصفه من الأعمال الوطنية الكبرى التي تعيد للوحدة الوطنية مكانتها في نفوس كل أبنائها وإزالة الإحساس بفكرة الغالب والمغلوب بين أبناء الوطن الواحد، ولعل المكابرة في نفي ذلك يندرج في سياسة مغالطة النفس والتملق لغرائز القوة(..) إن الديمقراطية منظومة متكاملة لا تتجزأ أساسها المواطنة المتساوية واحترام العقد الاجتماعي بين الحكام والمحكومين وصيانة الحريات والحقوق الإنسانية دونما تمييز لأي سبب كان والقبول بالتعددية الفكرية والسياسية وعدم الاكتفاء من الديمقراطية بالتسمية ومظاهر الزيف الخارجية.".

شبكة صوت الحرية -

منذ 8 سنوات

-

1272 مشاهدة

مقالات ذات صلة

أهم التصريحات المزيد