وضاح الجليلوضاح الجليل

الحرب الاقتصادية.. رابحون كُثر وخاسر واحد


وضاح الجليل

يتغير نمط الاقتصاد خلال الحروب الداخلية بشكل جذري وعميق، ويلقي بآثاره على الاقتصاد النظامي برمته، وتفقد الحكومة السيطرة على مسارات الإنتاج والأنشطة الاقتصادية والتجارية، ويجري بناء اقتصادات موازية للاقتصاد الوطني، وتعمل الميليشيات والأطراف المتمردة على تقوية نفسها من خلال بناء اقتصادها الخاص، وتمكين قياداتها ومواليها من تشكيل قطاعات اقتصادية طفيلية سريعة النمو، وغالبا ما تتوسع هذه القطاعات بطرق غير شرعية، من خلال النهب المنظم والعشوائي، وتجيير أنشطة مؤسسات الدولة والقطاعات الاقتصادية لصالحها، وفرض الجبايات والجبايات والتبرعات، ورفع رسوم الخدمات وفرض رسوم مستجدة ومستحدثة، ومزاولة أنشطة اقتصادية غير مرخصة، وتكوين أسواق سوداء للمواد الأساسية، ويمثل التهريب أحد أهم الأنشطة التي تدعم هذه الاقتصادات الموازية، إضافة إلى ابتزاز السكان واستخدام المستضعفين منهم في السخرة.

وسمح المجتمع الدولي للميليشيات بالحصول على مورد آخر لدعم اقتصادها، وهو المساعدات الإغاثية العينية والمالية للمتضررين من الحرب، والتي ظلت العديد من المؤسسات الدولية تقدمها في مناطق سيطرة الميليشيات، وتسمح لها بتجييرها لصالحها أو نهبها أو الاستفادة منها في تمويل جبهات القتال، أو نهبها وتسليمها إلى أيدي تجار موالين لها لبيعها في الأسواق.

تقول بعض التقديرات إن الاقتصاد اليمني خسر خلال الحرب ما يقارب 60 مليار دولار؛ وما يزيد عن 40 في المائة من هذه الخسائر هي خسائر مادية مباشرة، وتبلغ خسائر الناتج المحلي حوالي 35 مليار دولار؛ في حين بلغت الخسائر المتعلقة بالمساكن ما يزيد عن 19 مليار دولار، وتقول الكثير من التقديرات إن متطلبات إعادة الإعمار تزيد عن 90 مليار دولار.

وانعكس هذا الوضع على حال المعيشة في اليمن؛ التي تأثرت تكاليفها بما يقدر بـ 40 في المائة في العام 2018، وهذه النسبة كانت قبل الانهيار الكبير في قيمة العملة المحلية أمام العملات الأجنبية، حيث تراجع سعر الريال اليمني منذ ذلك العام ما بنسبة تفوق الـ 100 في المائة، وفشلت أغلب المحاولات لمنع هذا التدهور أو تلافيه؛ إلا أن الأشهر الأخيرة شهدت تحسنا نسبيا لم يشفع للأسعار بالتراجع إلى المستوى المطلوب، وتخفيف الأعباء على المواطنين.

إن معاينة تأثير الانقلاب والحرب على البلاد لا يمكن أن تتوقف عند مئات الآلاف من القتلى والجرحى والمختطفين والمخفيين، أو ملايين النازحين والمشردين، ولا عند تدمير حوالي 9500 منشأة، أو مئات الآلاف من الألغام التي وإن توقفت الحرب؛ فإنها ستبقى تهدد حياة وسلامة أجيال عديدة من اليمنيين في المستقبل؛ بل ينبغي إلى جانب كل ذلك وبأهمية شديدة؛ مقاربة الأضرار التي لحقت بالاقتصادي اليمني، والآثار التي ستترتب عليها في المستقبل، وحتى متى يمكن أن يعاني المجتمع من هذه الآثار، وكيف يمكن مواجهة ذلك سواء توقفت الحرب أم لا.

يعاني غالبية السكان من افتقاد مقومات الحياة الرئيسية، مثل الماء والكهرباء والصحة والتعليم، وهذا الأمر قائم منذ ما قبل الحرب؛ إلا أن الحرب صرفت الأنظار عن هذه الأساسيات، وأجبرت كل فرد وأسرة إمكانية البحث عن الأمان والسلامة، أما هذه الأساسيات فليتدبرها كل عائل أسرة حسب إمكانياته وظروف ومكان معيشته إن توفرت رفاهية لذلك.

ارتفعت أعداد الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية الحاد إلى أكثر من 2.1 مليون طفل، وتراجع نصيب الفرد من الناتج المحلي حوالي الثلثين، وتتلاشى بشكل يومي الطبقة الوسطى مع انقطاع الرواتب الحكومية ليصبح أكثر من 80% من اليمنيين فقراء، وهذه النسبة مرشحة للزيادة باستمرار الحرب. 

بدأ الانقلاب بتدمير السلطة الشرعية للحكم وطردها من مركزها، وهذا الأمر أنتج لا مركزية اقتصادية، وخروج القرار الاقتصادي من مركز الحكم، وكان من آثار ذلك تدمير حركة الاقتصاد النظامي الطبيعية وخسارة الكثير من قطاعات المال والأعمال قدرتها على مزاولة أنشطتها، وتسريح الكثير من الفئات العاملة، وتسهيل دخول وخروج البضائع بدون رقابة.

وتظافرت جائحة كورونا مع الحرب والانقلاب في تدمير ما تبقى من تماسك الاقتصاد اليمني، وبرغم أن اليمن لم تشهد أي نوع من أنواع الإغلاق والإجراءات الاحترازية التي شهدها العالم؛ إلا أن التأثر جاء بشكل مختلف، حيث تراجعت التحويلات القادمة من المغتربين إلى الداخل بسبب تأثر مداخيلهم بالجائحة والإغلاق، وأوقفت عدد من الدول مساعداتها الموجهة إلى اليمن أو قلصتها بسبب تأثر اقتصاداتها بالجائحة، وأدى تراجع الطلب على النفط وتراجع تجارته إلى تراجع صادرات اليمن منه، وهو ما أثر على خزانة الحكومة التي لجأت إلى إجراءات اضطرارية أدت إلى التضخم. 

ألقت كل هذه العوامل بظلالها على الاقتصاد والأحوال المعيشية، وأدت إلى تدهور سعر صرف العملة المحلية بأكثر من 186%، وخسر الناتج ما يقارب 89 مليار دولار عام 2020، وهو رقم مرشح للارتفاع بحسب التقارير الصادرة عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.


صناعة الأزمات واستثمارها

في أول أسابيع عاصفة الحزم، تعمدت الميليشيات استهداف البنية وخلق أزمات استهلاكية متعددة، فاستولت على كامل مخزون المشتقات النفطية والوقود مستخدمة إياها وقودا لعرباتها العسكرية في الجبهات، ولتأمين تحركات قادتها، وافتتحت أسواقاً سوداء لبيعه في شوارع المدن والمناطق التي تسيطر عليها، وفعلت المثل بالغاز المنزلي، قبل أن تتعمد قطع الكهرباء العمومية، ملقية بالتهمة في كل ذلك على التحالف العربي، واستثمرت بعد ذلك في سوق أجهزة ومعدات الطاقة الشمسية التي ازدهرت تجارتها في فترة زمنية قصيرة، وبرزت أسماء كثير من التجار الجدد من الأسر الموالية للميليشيا، ولوحظ أنه وبعد عدة أعوام من ازدهار سوق معدات الطاقة الشمسية، ثم تراجعها بسبب تشبع الأسواق منها؛ ذهبت الميليشيا إلى تشغيل عدد من المحطات الكهربائية، وبيع الطاقة للمواطنين بأسعار بلغت أكثر من 300% من أسعارها قبل اندلاع الحرب.

وتشهد مناطق سيطرة الميليشيات وبشكل شبه دوري أزمات متعددة طويلة الأمد في الوقود والغاز المنزلي، برغم أن هذه المواد لم تدخل ضمن الحظر المفروض على تلك المناطق الذي اقتصر على الأسلحة والمعدات العسكرية فقط؛ إلا أن الميليشيات تتعمد خلق ازمات الوقود والغاز المنزلي بشكل مستمر، وبيع هذه المواد في الأسواق السوداء التي يديرها عناصر تابعون لها، وتعد هذه الأسواق أحد أهم روافد اقتصاد الميليشيات وقوتها المالية.

وساهمت الحكومات اليمنية المتعاقبة في تدهور الاقتصاد، بقراراتها المتخبطة وإجراءاتها العشوائية، وعدم تعاملها مع استشاريين وخبراء محليين ودوليين في كيفية التعامل مع الوضع الاقتصادي، وماهية القرارات التي ينبغي عليها اتخاذها للحد من التدهور، ومن ذلك تعويم العملة المحلية ورفع القيمة الجمركية للدولار، بينما كان الأجدر بها ضبط سوق الأوراق النقدية، وإيقاف التلاعب بأسعار العملات الأجنبية، الأمر الذي أدى إلى المزيد من التدهور في العملة، وارتفاع أسعار الخدمات والمواد الأساسية، مع أزمات مستمرة في الكهرباء والغاز.

وما زالت الكثير من المناطق والمحافظات المحررة بدون كهرباء، دون أن تتدخل الحكومة لمجرد محاولة إيجاد حلول، أو البدء بمشاريع مد هذه المحافظات بالطاقة، وتركها خاضعة لابتزاز ومزاج تجار معدات الطاقة الشمسية وأصحاب المولدات الكهربائية، حيث يضطر المواطنون إلى دفع أموال طائلة مقابل هذه الحلول، وهي حلول غير كافية، ولا توفر الطاقة الكافية لمتطلبات الحياة.

يتوقّع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP أن أكثر من 16 مليون يمني سيواجهون الجوع خلال هذه العام، منبها أن الجوع ليس بسبب نقص الغذاء، وإنما تكلفة المنتجات المستوردة، وعدم ضبط الأسعار أو الرقابة عليها أو توفير بيئة لاستقرارها، وهو ما يجعل الغذاء باهض الثمن.

وتفتقر الحكومة للتخصص والاستراتيجية في عملها وإجراءاتها، وتعمل بعشوائية بدون محاولة ابتكار خطط قصيرة أو طويلة المدى، وعجزت عن تحديد الموارد أو الإعلان عن موازنتها السنوية، أو الرقابة على أداء مؤسساتها وفروعها وتحصيل الموارد المالية المركزية أو المحلية.


متطلبات تعافي الاقتصاد

يتطلب تعافي الاقتصاد اليمني جملة من الإجراءات وتظافر الجهود بين الحكومة ورأس المال الوطني، والأطراف الإقليمية والدولية المعنية بالشأن اليمني والمؤسسات الدولية الفاعلة.

لا يمكن أن يتعافى الاقتصاد اليمني بالحصول على المساعدات والقروض الخارجية؛ فهذا الأمر، وإن كان عاملاً مهما في دعم العملة المحلية، وتمكين مختلف مؤسسات الدولة من تحسين أداءها، وتطوير تعاملاتها؛ إلا أن المتطلبات الملحة تتمثل في مواجهة الفساد وكشف منابعه والسيطرة على قرار المؤسسات الاقتصادية الكبرى، والشفافية في تحصيل الإيرادات وخصوصا من قطاع الضرائب والجمارك، وتقليص نفوذ وسيطرة رأس المال الطفيلي ورأس المال الناتج عن الحرب والأزمات، ومنع غسل أموال الفاسدين والنهابة وتجار الحرب.

كما وتبرز الحاجة الملحة إلى تفعيل مبادئ الشفافية في المؤسسات النقدية مثل البنك المركزي، ورقابته على العمليات المالية والتحويلات الداخلية والخارجية، وتفعيل الرقابة الداخلية في إدارة البنك.

وفي مجال التنمية؛ فإن تعافي الاقتصاد لا يمكن أن يحدث بدون مساهمة القطاع الخاص ورأس المال الوطني والشركات الكبرى التي تحتاج إلى الحماية من الابتزاز والجبايات، إضافة إلى تحويل كامل المساعدات المالية القادمة من الخارج والقروض إلى مجال التنمية والمشاريع المستدامة عوضا عن صرفها في مساعدات مؤقتة للمتضررين من الحرب، وإيجاد مشاريع تنموية يندمج في تشغيلها النازحون والفئات المتضررة من الحرب.

وتتمثل أهمية القطاع الخاص  ورأس المال الوطني في دعم مختلف القطاعات، وزيادة النمو الاقتصادي، وتطوير دورة الاستثمار وتوفير فرص العمل، وهي جميعا من متطلبات إدامة التنمية، وهذا كله يتطلب منح القطاع الخاص تسهيلات ومساحات للعمل، ومنع منافسة الاقتصاد الطفيلي وتجار الحروب والأزمات له.

وتتطلب العملية الاقتصادية زيادة الصادرات وخصوصا في النفط والغاز، وإعادة تأهيل وتشغيل الموانئ والمنافذ والمؤسسات والقطاعات الإيرادية ومكافحة الفساد فيها، وتقليص النفقات الحكومية وإعادة النظر في مرتبات كبار المسؤولين، وتقليص التمثيل الدبلوماسي.

شبكة صوت الحرية -

منذ سنتين

-

789 مشاهدة

مقالات ذات صلة

أهم التصريحات المزيد